هملت البابلي لايموت ويدعوا للتغيير
يضعنا العرض المسرحي العراقي (هاملت) لوليم شكسبير ومخرجه الدكتور محمد حسين حبيب الذي قدمته المديرية العامة للتربية – مديرية النشاط المدرسي بالتعاون مع نقابة الفنانين فرع بابل، أمام تساؤلات عديدة تتعلق بالشأن المسرحي العراقي عموماً وبالتجربة المسرحية في (مسرح الهامش) خصوصاً، ولعل في مقدمة تلك التساؤلات إمكانية تقديم هكذا أعمال كبيرة في مسرح الهامش الذي نصف به نقدياً ما أصطلح عليه في النقد المسرحي العراقي بـ (مسرح المحافظات) في محاولة من الواصفين له بهذا المصطلح سلخ هذا المسرح من جغرافيته الإبداعية بالتركيز علي جغرافيته المكانية وبالتالي عزله عن ما يُقدم في العاصمة بوصفه (مسرحاً عراقياً) دون أن تشمل هذه الصفة ولو بالوصف النقدي ما يُقدّم في (مسرح الهامش = مسرح المحافظات) وهي إشكالية تم تكريسها عبر عقود طويلة لا نود الخوض فيها الآن، ولكن ما يهمنا هو العرض البابلي/العراقي (هاملت) الذي إستطاع أن يضع (مسرح الهامش) بمواجهة (مسرح المركز = العاصمة) في التعامل مع الأعمال المسرحية الكبيرة التي تحتاج إلي بنية مسرحية ثرية يمكنها أن تدفع بمثل هذه الأعمال إلي النجاح والتأثير في متلقيها المعاصر، حيث سبق لبروغرام المسرح العراقي (في العاصمة = المركز) تقديمها بنسب متفاوتة في النجاح.رؤي وأفكار
فبرغم القراءات المتعددة لمسرحية هاملت سواء تلك القراءات الأدبية والتحليلية والنقدية لهذه المسرحية أو القراءات الإخراجية التي لا يخلو منها أي بروغرام مسرحي في أي بلد، إلا أنها مازالت – وستظل – تمتلك مقومات وجودها المستمر عبر ما تختزنه من رؤي وأفكار قابلة للتجدد والإحياء، فهاملت بحسب الناقد يان كوت (أشبه بالإسفنجة . إذا لم تُخرج علي شكل مقولب أو عتيق، فإنها في الحال تمتص جميع مشكلات عصرنا)، وهذه القدرة الامتصاصية لهاملت هي التي تجعلها تتقبل ذلك الوجود المتحرّك علي خشبات المسارح، لذلك فان أي قراءة إخراجية جديدة لابد أن تتعامل مع المدونة النصيّة للمسرحية لا بوصفها نصاً كلاسيكيا يتحدث عن حقبة مهمة من حقب الصراعات البشرية، بل بوصفها مدوّنة متعددة الأبعاد ففيها البعد السياسي والفلسفي والعائلي وغيرها من الأبعاد التي تجعل المخرج المعاصر أمام متاهة كبيرة أي الطرق يسلكها للوصول إلي الجوهر الشكسبيري فيها، فبحسب (يان كوت) أيضاً فان هاملت شكسبير لا يمكن تمثيلها بأكملها لأن عرضها يستغرق حوالي ست ساعات، وهذا يعني إستحالة أن يقدم المخرج المعاصر هاملت الذي نقرأه في المدونة الأدبية للنص الشكسبيري، ما يدفعنا إلي التوصل إلي نتيجة أولية مفادها : أن ما نشاهده من هاملت علي خشبة المسرح هو في واقع الحال (واحدة من عدّة ” هاملتات ” قائمة إمكاناً في هذه المسرحية الأم . ولسوف تكون دائماً مسرحية أقل غني من ” هاملت ” شكسبير، غير أنها قد تكون ” هاملت ” مغتنية بكونها من زماننا)، ولعل هذا التوصيف النقدي الدقيق لأهم مشكلة تواجه المخرج المعاصر في التعامل مع النص الهاملتي هي التي تدفع بالمخرجين إلي التعامل مع النص الشكسبيري بوصفه مشروعاً لكتابة مسرحية جديدة، جديدة بالمعني الأدبي للمسرحية وبالمعني المشهدي المُجسد علي الخشبة أيضاً حتي وإن خرجت تلك المسرحية من المعطف الشكسبيري، ولكن يبقي سؤال الإخراج فيها قائما : (كم من شكسبير فيها ؟ وكم منا نحن أيضاً ؟) كما يقول (يان كوت)، وهو ما يدفع الكثير من المخرجين إلي معالجة النص الشكسبيري معالجة دراماتورجية تعيد تكييف النص الهاملتي وفقاً لمتطلبات القراءة الإخراجية الجديدة، فكل عملية حذف وإضافة وتقديم وتأخير للأحداث أو للحوارات أو تصدير شخصية علي حساب أخري في العرض هي ممارسات دراماتورجية يقوم بها المخرج المسرحي أو من يعاونه لصناعة العرض المسرحي، وهو ما فعله الدكتور محمد حسين حبيب حينما عمل منذ بدء العرض علي تصدير (مسرحية المصيدة) التي تأتي في النص الشكسبيري في الفصل الثالث/المشهد الثاني لتكون مفتتحاً للعرض البابلي، وإذا كانت مسرحية المصيدة في النص الشكسبيري بوصفها (مشهداً واصفاً) أو (ما وراء – المسرح Meta – theatre ) تؤدي غرضاً بنائياً يكشف لهاملت حقيقة ضلوع عمه الملك (كلوديوس) في مؤامرة قتل أبيه والزواج من أمه والاستيلاء علي العرش، فإنها في العرض البابلي تفقد هذا المعني لتُنتج معني آخر يختلف عن مرجعيته النصيّة، معني جديد يؤسس لمتنٍ من السرد المشهدي الذي تتغاير فيه التراتبية الشكسبيرية لصالح القراءة الدراماتورجية من قبل المخرج/الدراماتورج الذي يعيد رواية الحدث إنطلاقاً من فهم معاصر للمأساة الشكسبيرية يقترح لها بدايتها ونهايتها التي تتقاطع مع المتن السردي الشكسبيري، فتصبح (مسرحية المصيدة) في العرض البابلي مفتتحاً أو (مشهداً إستهلالياً) لحكاية يقوم (هوراشيو) بسردها مع مجموعة الممثلين عندما يتوجه أحدهم إليه قائلاً : (هوراشيو أنت الشاهد الوحيد، فلنبدأ)، أي بالعودة إلي طلب هاملت من هوراشيو في النص الشكسبيري وهو يوشك علي الموت أن يقوم بسرد حكايته للآخرين (إن كنت إحتويتني يوماً في قلبك، غيِّب النفس عن هناءتها رَدَحاً، وفي عالم الجور هذا إستلّ أنفاسك ألماً لتروي قصتي)، إلا أن سياق العرض يتقاطع مع هذا الطلب لأن هاملت في العرض البابلي لا يموت، بل ينتصر علي الملك (كلوديوس) الذي يقتله هاملت في المشهد الختامي للعرض البابلي، وهي قراءة إخراجية تجرّد النص الشكسبيري من مأساويته لأن البطل (هاملت) لا يموت وهذه إشكالية فكرية تحتاج إلي الكثير من المراجعة البنيو – رؤيوية، لأن الفعل التراجيدي في المسرحية قائم أصلاً علي (موت البطل) عبر عدد من حالات التحوّل بين الفعل واللافعل، ولذلك أجد أن موت هاملت في النص الشكسبيري أوقع درامياً من عدم موته في العرض البابلي، فبموت هاملت يبدو طلبه من هوراشيو سرد حكايته مبرراً، أما في العرض فلا يوجد مسوّغ لرواية الحكاية من جديد . الإشكالية الأخري التي يقع فيها العرض البابلي تتعلق بشخصية (فورتنبراس)، فعلي الرغم أنه لا يظهر في النص الشكسبيري إلا مرّتين، الأولي في الفصل الرابع/المشهد الرابع والثانية في نهاية المسرحية (الفصل الخامس/المشهد الثاني) إلا أن حضوره اللامرئي يشكل جوّاً مهما من أجواء المسرحية (مملكة الدنمرك المهددة بجيوش الملك فورتنبراس)، فمن هو هذا الأمير الشاب ؟ – كما يتساءل يان كوت – وما الذي يمثله ؟ القدر الأعمي ؟ عبثية العالم ؟ أم انتصار العدالة …. علي المخرج أن يقرر أمره، فتجاهله بالطريقة التي جرت في العرض البابلي يجرّد القراءة الإخراجية من نغمة التوتر والترقب والحصار التي يخلقها حضور (فورتنبراس) اللامرئي، خاصة وان العرض البابلي ذكر في ربعه الأول (الفصل لثاني/المشهد الثاني) علي لسان الملك (كلوديوس) عزم (فورتنبراس) علي اجتياح مملكة الدنمرك، كذلك فان الصياغة الدراماتورجية حاولت تأسيس علاقات جديدة بين الشخصيات عبر المغايرة مع المرجع الشكسبيري خاصة علاقة هاملت بـ (لايرتس) الذي يظهر في بدء العرض مع هوراشيو بفعل إيمائي ليقدمان لهاملت سيفاً وكتاباً وهما أيقونتان ماديتان تفيدان خيارا العقل والقوة اللذان كان هاملت متأرجحاً بينهما في النص الشكسبيري، كذلك يفعل في نهاية العرض عندما تتحد إرادة هاملت مع لايرتس للقضاء علي الملك كلوديوس، وهي صياغة تتناقض مع ما يجري بين الاثنين من علاقة توتر وعداء بسبب موت (أوفيليا) وقتل الوزير (بولونيوس) بيد هاملت في النص الشكسبيري وهما والد وشقيقة لايرتس، تلك العلاقة التي حافظ عليها العرض بين مشهدي الافتتاح والختام المبتكرين .
الرؤية الإخراجية
ومثلما تأرجحت القراءة الدراماتورجية للنص الشكسبيري عبر إعداده للعرض بين المحافظة علي طرازية النص ومحاولة تحديث شبكة علاقاته الدراماتيكية، فان الرؤية الإخراجية هي الأخري اعتمدت ثنائية الثابت والمتحوّل في التعامل مع إنشائية المشهد، فعلي الرغم من ضيق مساحة خشبة المسرح التي جري تقديم العرض عليها، إلا أن مصمم الديكور (ظافر نادر) إستثمر المساحة بشكل موحٍ وفّر إمكانية الاستفادة منها في الانتقالات المكانية عبر المشاهد (القلعة/العرش/المخدع/الشرفة/المقبرة/الرواق/… الخ)، كذلك جعله مداخل الأبواب علي هيئة توابيت وهيمنة اللون الرمادي علي ألوان الديكور الذي يُحيل إلي فعل التآمر والموت، ما أدي إلي المزاوجة بين البُعد التجريدي فيه، إضافة إلي المحافظة علي البُعد الطرازي في العرض بالرغم من لجوء المخرج إلي إظهار الملك (كلوديوس) من بين الجمهور مرتدياً (بسطالاً) عسكريا يرافقه تابعان يرتديان زيّاً معاصراً خارقاً بذلك منطق الثابت الذي هيمن علي جزء كبير من ديكور العرض لتحقيق نوعٍ من الإسقاط المعاصر، لكنه في الوقت ذاته أسس لبنية المتحوّل في ديكور العرض عبر الإزاحات الشعرية لمفردات الديكور التي خلقت إيحاءات مكانية عمّقت من النسق السيميائي في العرض كتوظيف (المدرّجات) في أكثر من مشهد، خاصة مشهد الكينونة، ومشهد إقناع الملك للايرتس بمبارزة هاملت، أو في مشهد حفار القبور، وهذه الثنائية التي كوّنت إنشائية المشهد إنعكست بدورها علي إنشائية الحركة ودلالاتها الجمالية عبر اعتماد الرؤية الإخراجية علي الحركة الواسعة التي ملئت مساحة الخشبة محققة تعادلاً بصرياً أسهم بشكل كبير في إثراء الإنشائية العامة للعرض، فكانت المستويات المتعددة لمساحة التمثيل والأبواب الجانبية والستائر الأمامية (الشفافة) والخلفية (المُعتمة) كلها تلعب دوراً في إغناء سينوغرافيا العرض المسرحي، وإذا ما أضفنا الاستثمار الجمالي للمشهد السينمائي الذي عزز من مساحة المتحوّل في العرض في مشهدي (الطيف) و (موكب تشييع جنازة أوفيليا)، فان هاملت البابلي يكون قد سعي إلي إحداث قراءة مغايرة تحتفل بالواقع السياسي الراهن عبر رؤية شخصانية حددها المخرج في دليل العرض بفعل الشهادة علي العصر ورواية الفاجعة التي تم فيها قتل الأب وتلويث الأم وإستفزاز العقل والدم، هي في واقع الحال قراءة (مسرح الهامش) لهذا النص الشكسبيري المتجدد .
في العرض البابلي لهاملت ثمّة مقاربة أدائية إجتهدت علي مستوي التمثيل في الاقتراب كثيراً من البناء الشكسبيري للشخصيات، فظهرت اغلب شخصيات العرض مقنعة في عطاءها الأدائي أو في تعاملها مع مفردات العرض عموماً كالأزياء والإضاءة والإكسسوارات التي كوّنت بيئة العرض، وأظهرت مزيجا من الأداء الإحترافي والأداء الفطري مما خلق تباينا في الحضور الشخصي لكل ممثل بالقياس إلي الآخر، وهي نتيجة طبيعية لغياب هكذا أعمال وشخصيات عن التجربة الشخصية لممثلي العرض الذين أسسوا قدراتهم الأدائية علي بروغرام مسرحي متفاوت في الاختيار، فكان أداء (ميثم كريم الشاكري/هاملت) اقرب إلي المزاوجة بين الأداء الكلاسيكي بالاعتماد علي الوقفات الجسدية والمد الصوتي، والأداء الغروتسكي القائم علي السخرية الخشنة، وهي ثنائية منحته حضورا واضحاً في العرض أضفت عليه المقاربة الإخراجية التي عملت علي عدم موته في نهاية العرض (كارزما) خاصة منحته صدق التعبير والتأثير في المتلقين رغم صعوبة الدور، في السياق ذاته يأتي أداء (نور الهدي/أوفيليا) مانحاً الدور شيئاً من صدق المشاعر والجنون الخارق للطبيعة البشرية حيث عملت علي توظيف خواصها الشخصية كممثلة لخواص الشخصية المؤداة فكانت مزيجاً من التعبير الشفاف عن مأساة الحب الضائع، والانتحار غير القصدي المؤسس علي طبيعة تأثرية تفوق الوصف حيث يتساوي منطق الحياة مع الموت عندها في مشهد يُمثل ذروة الأداء التمثيلي في العرض، وفي حين كان (علي محمد إبراهيم/الملك كلوديوس) قابضاً علي الشكل الخارجي للشخصية ساعياً إلي التعبير المُبالغ عبر الإيماءات والإشارات وتعبيرات الوجه التي كانت تتنوع بحسب المواقف، إلا أن حضوره الفاعل كان في مشهد الصلاة علي وجه التحديد حيث كشف عن طاقة أدائية تجيد التصريف لفعلها الداخلي بما يتوافق مع إنشائية الحركة التي إقترحها الإخراج، علي الضد من ذلك كانت (جنان ستار/الملكة غرترود) التي بدت غير منسجمة مع منظومة الأداء التمثيلي عبر التردد في توظيف طاقتها التمثيلية بما يخدم بناء الشخصية وتحولاتها السايكلوجية التي تزداد تعقيداً مع تطور الحدث، خاصة في مشهد المخدع مع هاملت، الأمر الذي أنعكس علي مستوي الإقناع بفاعلية الشخصية وحضورها الدرامي، في حين إجتهد كل من (علي حسن علوان/بولونيوس) و (ثائر هادي جبارة/لايرتس) و (حسين العسكري/هوراشيو) في التعامل مع شخصياتهم من منطلق السعي إلي التوحيد بين إنشائية الحركة والبناء النفسي لشخصياتهم عبر الاهتمام بالطاقة الأدائية المتدفقة التي تروم إحداث نوع من الأثر الحسي في المتلقي، بينما كان أداء (حسن الغبيني/المهرج – حفار القبور) يمثل محطة استراحة مهمة للفعل الدرامي المحتدم وترويحاً كوميدياً من حدّة المأساة في ذات الوقت الذي كانت عباراته تنطق حكمة وموعظة تتناسب والخطاب الوجودي الذي أراد شكسبير بثه عبر هذه الشخصية خاصة فيما يتعلق بموضوعة المصير الإنساني، وجاء أداء (غالب العميدي/الطيف – أبو هاملت) و (محمد المرعب/غلدنسترن) و (محسن الجيلاوي/روزنكرانتز) متساوقاً مع الفعل العام للعرض المسرحي حيث سعي الثلاثة إلي تطويع قدراتهم التمثيلية لتقديم شخصيات ملتبسة في حضورها بين المرئي واللامرئي، فالحضور الشبحي لوالد هاملت يأتي ثقيلاً وأكثر واقعية من طبيعته الأثيرية، بينما يتضاءل الدور الحرباوي لصديقي هاملت لصالح أداء أكثر وقارا مما يجب يتقاطع مع الطبيعة الملونة للشخصيتين، أما (محمد العميدي/الكاهن) و (كرار عبد الرزاق، أوس جميل حميد، علي كنعان/مهرجون – حراس) و (كرار عدنان، يوسف عبد الحسين/حارسان) فقد إستكملا الصورة العامة للعرض عبر أدؤهم الذي جنح إلي وظيفة تنفيذية تتناسب وخطة الإخراج في إبراز المناخ العام للعرض، فكان حضورهم يمنح الأداء التمثيلي رتوشاً كبيرة تُكمل صورته الإنشائية العامة، وقد منحت التقنية السينمائية (الداتا شو) العرض مساحة من توسيع الفعل بإتجاه خلق مناخات تخرق المعمار الطرازي في العرض لصالح شعرية بصرية تناثرت في جسد العرض وتوازت مع طرازيته، حيث عمل المصور السينمائي والمونتير (خضر عباس السلطاني) إلي جانب المنفذ (علي محمد صبار) علي تحقيق ذلك التوازي في مشهدين مهمين هما مشهد جنازة أوفيليا ومشهد ظهور الطيف، إضافة إلي المشهد الختامي في العرض الذي حرر روح هاملت الأب بعد أن اخذ هاملت الابن بثأره من الملك كلوديوس، وهذا الجانب البصري رافقته إضاءة (نورس محمد غازي) التي عملت رغم فقرها التقني علي ثنائية الكشف والإخفاء في ذات الوقت الذي سعت فيه إلي التعبير عن التحولات النفسية والحدث عبر الاستخدام المتكرر لعدد من الألوان الدالة مع مواضع الفعل، وإنسجاماً مع المستوي البصري جاء المستوي السمعي في المؤثرات الصوتية (علي عدنان التويجري، أسامة السلامي) التي أحكمت إيقاع العرض الذي تجاوز المائة دقيقة، ولابد من التنويه أيضاً بجهود العاملين المجهولين في العرض وهم : (حميد راضي/مساعد المخرج) و (محمد العميدي/مدير المسرح) و (علي فؤاد/مساعد مدير المسرح) و (غالب العميدي/مدير الإنتاج) و (ظافر نادر، حميد راضي، مازن جليل/تنفيذ الديكور) و (عامر رحيم/الماكياج) و (عدوية فائق خضير، محسن عبد الزهرة/الأزياء) و (محسن عبد الزهرة/الإكسسوار) و (حافظ مهدي ماجد/التسجيل الإذاعي) و (شريف هاشم الزميلي/الإشراف اللغوي) و (خضر عباس السلطاني/التصوير الفوتوغرافي) الذين كان لإخلاصهم ومثابرتهم الدور الكبير في الإعلان عن قدرة (مسرح الهامش) علي اختراق الأسوار الشكسبيرية .
ومثلما تأرجحت القراءة الدراماتورجية للنص الشكسبيري عبر إعداده للعرض بين المحافظة علي طرازية النص ومحاولة تحديث شبكة علاقاته الدراماتيكية، فان الرؤية الإخراجية هي الأخري اعتمدت ثنائية الثابت والمتحوّل في التعامل مع إنشائية المشهد، فعلي الرغم من ضيق مساحة خشبة المسرح التي جري تقديم العرض عليها، إلا أن مصمم الديكور (ظافر نادر) إستثمر المساحة بشكل موحٍ وفّر إمكانية الاستفادة منها في الانتقالات المكانية عبر المشاهد (القلعة/العرش/المخدع/الشرفة/المقبرة/الرواق/… الخ)، كذلك جعله مداخل الأبواب علي هيئة توابيت وهيمنة اللون الرمادي علي ألوان الديكور الذي يُحيل إلي فعل التآمر والموت، ما أدي إلي المزاوجة بين البُعد التجريدي فيه، إضافة إلي المحافظة علي البُعد الطرازي في العرض بالرغم من لجوء المخرج إلي إظهار الملك (كلوديوس) من بين الجمهور مرتدياً (بسطالاً) عسكريا يرافقه تابعان يرتديان زيّاً معاصراً خارقاً بذلك منطق الثابت الذي هيمن علي جزء كبير من ديكور العرض لتحقيق نوعٍ من الإسقاط المعاصر، لكنه في الوقت ذاته أسس لبنية المتحوّل في ديكور العرض عبر الإزاحات الشعرية لمفردات الديكور التي خلقت إيحاءات مكانية عمّقت من النسق السيميائي في العرض كتوظيف (المدرّجات) في أكثر من مشهد، خاصة مشهد الكينونة، ومشهد إقناع الملك للايرتس بمبارزة هاملت، أو في مشهد حفار القبور، وهذه الثنائية التي كوّنت إنشائية المشهد إنعكست بدورها علي إنشائية الحركة ودلالاتها الجمالية عبر اعتماد الرؤية الإخراجية علي الحركة الواسعة التي ملئت مساحة الخشبة محققة تعادلاً بصرياً أسهم بشكل كبير في إثراء الإنشائية العامة للعرض، فكانت المستويات المتعددة لمساحة التمثيل والأبواب الجانبية والستائر الأمامية (الشفافة) والخلفية (المُعتمة) كلها تلعب دوراً في إغناء سينوغرافيا العرض المسرحي، وإذا ما أضفنا الاستثمار الجمالي للمشهد السينمائي الذي عزز من مساحة المتحوّل في العرض في مشهدي (الطيف) و (موكب تشييع جنازة أوفيليا)، فان هاملت البابلي يكون قد سعي إلي إحداث قراءة مغايرة تحتفل بالواقع السياسي الراهن عبر رؤية شخصانية حددها المخرج في دليل العرض بفعل الشهادة علي العصر ورواية الفاجعة التي تم فيها قتل الأب وتلويث الأم وإستفزاز العقل والدم، هي في واقع الحال قراءة (مسرح الهامش) لهذا النص الشكسبيري المتجدد .
في العرض البابلي لهاملت ثمّة مقاربة أدائية إجتهدت علي مستوي التمثيل في الاقتراب كثيراً من البناء الشكسبيري للشخصيات، فظهرت اغلب شخصيات العرض مقنعة في عطاءها الأدائي أو في تعاملها مع مفردات العرض عموماً كالأزياء والإضاءة والإكسسوارات التي كوّنت بيئة العرض، وأظهرت مزيجا من الأداء الإحترافي والأداء الفطري مما خلق تباينا في الحضور الشخصي لكل ممثل بالقياس إلي الآخر، وهي نتيجة طبيعية لغياب هكذا أعمال وشخصيات عن التجربة الشخصية لممثلي العرض الذين أسسوا قدراتهم الأدائية علي بروغرام مسرحي متفاوت في الاختيار، فكان أداء (ميثم كريم الشاكري/هاملت) اقرب إلي المزاوجة بين الأداء الكلاسيكي بالاعتماد علي الوقفات الجسدية والمد الصوتي، والأداء الغروتسكي القائم علي السخرية الخشنة، وهي ثنائية منحته حضورا واضحاً في العرض أضفت عليه المقاربة الإخراجية التي عملت علي عدم موته في نهاية العرض (كارزما) خاصة منحته صدق التعبير والتأثير في المتلقين رغم صعوبة الدور، في السياق ذاته يأتي أداء (نور الهدي/أوفيليا) مانحاً الدور شيئاً من صدق المشاعر والجنون الخارق للطبيعة البشرية حيث عملت علي توظيف خواصها الشخصية كممثلة لخواص الشخصية المؤداة فكانت مزيجاً من التعبير الشفاف عن مأساة الحب الضائع، والانتحار غير القصدي المؤسس علي طبيعة تأثرية تفوق الوصف حيث يتساوي منطق الحياة مع الموت عندها في مشهد يُمثل ذروة الأداء التمثيلي في العرض، وفي حين كان (علي محمد إبراهيم/الملك كلوديوس) قابضاً علي الشكل الخارجي للشخصية ساعياً إلي التعبير المُبالغ عبر الإيماءات والإشارات وتعبيرات الوجه التي كانت تتنوع بحسب المواقف، إلا أن حضوره الفاعل كان في مشهد الصلاة علي وجه التحديد حيث كشف عن طاقة أدائية تجيد التصريف لفعلها الداخلي بما يتوافق مع إنشائية الحركة التي إقترحها الإخراج، علي الضد من ذلك كانت (جنان ستار/الملكة غرترود) التي بدت غير منسجمة مع منظومة الأداء التمثيلي عبر التردد في توظيف طاقتها التمثيلية بما يخدم بناء الشخصية وتحولاتها السايكلوجية التي تزداد تعقيداً مع تطور الحدث، خاصة في مشهد المخدع مع هاملت، الأمر الذي أنعكس علي مستوي الإقناع بفاعلية الشخصية وحضورها الدرامي، في حين إجتهد كل من (علي حسن علوان/بولونيوس) و (ثائر هادي جبارة/لايرتس) و (حسين العسكري/هوراشيو) في التعامل مع شخصياتهم من منطلق السعي إلي التوحيد بين إنشائية الحركة والبناء النفسي لشخصياتهم عبر الاهتمام بالطاقة الأدائية المتدفقة التي تروم إحداث نوع من الأثر الحسي في المتلقي، بينما كان أداء (حسن الغبيني/المهرج – حفار القبور) يمثل محطة استراحة مهمة للفعل الدرامي المحتدم وترويحاً كوميدياً من حدّة المأساة في ذات الوقت الذي كانت عباراته تنطق حكمة وموعظة تتناسب والخطاب الوجودي الذي أراد شكسبير بثه عبر هذه الشخصية خاصة فيما يتعلق بموضوعة المصير الإنساني، وجاء أداء (غالب العميدي/الطيف – أبو هاملت) و (محمد المرعب/غلدنسترن) و (محسن الجيلاوي/روزنكرانتز) متساوقاً مع الفعل العام للعرض المسرحي حيث سعي الثلاثة إلي تطويع قدراتهم التمثيلية لتقديم شخصيات ملتبسة في حضورها بين المرئي واللامرئي، فالحضور الشبحي لوالد هاملت يأتي ثقيلاً وأكثر واقعية من طبيعته الأثيرية، بينما يتضاءل الدور الحرباوي لصديقي هاملت لصالح أداء أكثر وقارا مما يجب يتقاطع مع الطبيعة الملونة للشخصيتين، أما (محمد العميدي/الكاهن) و (كرار عبد الرزاق، أوس جميل حميد، علي كنعان/مهرجون – حراس) و (كرار عدنان، يوسف عبد الحسين/حارسان) فقد إستكملا الصورة العامة للعرض عبر أدؤهم الذي جنح إلي وظيفة تنفيذية تتناسب وخطة الإخراج في إبراز المناخ العام للعرض، فكان حضورهم يمنح الأداء التمثيلي رتوشاً كبيرة تُكمل صورته الإنشائية العامة، وقد منحت التقنية السينمائية (الداتا شو) العرض مساحة من توسيع الفعل بإتجاه خلق مناخات تخرق المعمار الطرازي في العرض لصالح شعرية بصرية تناثرت في جسد العرض وتوازت مع طرازيته، حيث عمل المصور السينمائي والمونتير (خضر عباس السلطاني) إلي جانب المنفذ (علي محمد صبار) علي تحقيق ذلك التوازي في مشهدين مهمين هما مشهد جنازة أوفيليا ومشهد ظهور الطيف، إضافة إلي المشهد الختامي في العرض الذي حرر روح هاملت الأب بعد أن اخذ هاملت الابن بثأره من الملك كلوديوس، وهذا الجانب البصري رافقته إضاءة (نورس محمد غازي) التي عملت رغم فقرها التقني علي ثنائية الكشف والإخفاء في ذات الوقت الذي سعت فيه إلي التعبير عن التحولات النفسية والحدث عبر الاستخدام المتكرر لعدد من الألوان الدالة مع مواضع الفعل، وإنسجاماً مع المستوي البصري جاء المستوي السمعي في المؤثرات الصوتية (علي عدنان التويجري، أسامة السلامي) التي أحكمت إيقاع العرض الذي تجاوز المائة دقيقة، ولابد من التنويه أيضاً بجهود العاملين المجهولين في العرض وهم : (حميد راضي/مساعد المخرج) و (محمد العميدي/مدير المسرح) و (علي فؤاد/مساعد مدير المسرح) و (غالب العميدي/مدير الإنتاج) و (ظافر نادر، حميد راضي، مازن جليل/تنفيذ الديكور) و (عامر رحيم/الماكياج) و (عدوية فائق خضير، محسن عبد الزهرة/الأزياء) و (محسن عبد الزهرة/الإكسسوار) و (حافظ مهدي ماجد/التسجيل الإذاعي) و (شريف هاشم الزميلي/الإشراف اللغوي) و (خضر عباس السلطاني/التصوير الفوتوغرافي) الذين كان لإخلاصهم ومثابرتهم الدور الكبير في الإعلان عن قدرة (مسرح الهامش) علي اختراق الأسوار الشكسبيرية .
تدوينات متعلقة
تعليق واحد على هذه التدوينة
السلام عليكم
حقيقة عندما اتجول في الشبكة العالمية اجد الكثير من كتاباتك المسرحية المهمة والتي فيها من الابداع الشيء الكثير واعتبرها حقيقة مرتكزا مهما من مرتكزات الثقافة العراقية اتمنى لك دوام الابداع والتالق ورفد الساحة بكل ما هو جديد ونافع
يا اخي العزيز ياسر
عندي تساؤل هل اشتركت في عام 1988 بعمل مسرحي مع الاستاذ عزيز خيون اسمه الف رحلة ورحلة
ولك الشكر لمتابعتك ما كتبته لك
تحياتي
أضف تعليق :